عودة ترامب- طهران بين العقوبات المحتملة والدبلوماسية الهادئة.

إن فوز دونالد ترامب وحزبه الجمهوري في الانتخابات الأخيرة قد أثقل كاهل طهران، ولم يمر مرور الكرام، بل زاد من تعقيد الأمور. هذا الفوز الساحق، منح خصمها العنيد فرصة ثمينة للسيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب، وهما ساحتان لا تحظى فيهما طهران بشعبية كبيرة. والأهم من ذلك، أن هذا الفوز جاء في لحظة حرجة للغاية، حيث يعاني نفوذ طهران الإقليمي من تذبذب ملحوظ في ساحاتها الإقليمية الأساسية، خاصة بعد السابع من أكتوبر، وبالتحديد بعد اندلاع الحرب على جبهة لبنان.
لا تزال طهران تتذكر سياسة "أقصى الضغوط" التي انتهجها الرئيس المنتخب في ولايته الأولى، والتي ألحقت بالاقتصاد وقطاع الطاقة والعملة الوطنية خسائر فادحة. فقد فرضت "سلسلة متتالية" من العقوبات، طالت ما يقرب من ألف شخص وكيان ومؤسسة.
ارتفع التضخم بوتيرة غير مسبوقة (أكثر من 40 بالمئة)، وفقد "التومان" ما يقارب ثلثي قيمته السوقية، وأغلقت الأبواب أمام تصدير ما يزيد عن 1.5 مليون برميل من النفط يوميًا، واضطربت التجارة مع الأسواق العالمية، بعد إخراجها من نظام سويفت، إثر انسحاب إدارة ترامب من اتفاق فيينا النووي في العام 2018. وقبل أن يودع ولايته، اتخذ قرارًا باستهداف رأس الحربة الإيرانية في المنطقة، الجنرال قاسم سليماني، في يناير/ كانون الثاني 2020.
ها هو شبح نسخة جديدة من نظام "أقصى الضغوط" يلوح في الأفق من جديد، وثمة مخاوف جمة من أن تكون النسخة الثانية من هذا النظام أشد قسوة وضراوة من النسخة الأولى. والأخطر من ذلك كله، أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تتزامن مع وصول التصعيد بين إيران وإسرائيل إلى مستوى غير مسبوق من الجرأة المتبادلة، والانخراط في اشتباكات مباشرة بين الدولتين، بعد ما يزيد عن أربعين عامًا من حروب الوكالة و"الظلال"، والحروب السيبرانية والاغتيالات وحرب الناقلات والسفن.
وهذا يعني، ضِمن ما يعنيه، أن تفعيل سلاح العقوبات ليس السيناريو الأخطر الذي يؤرق مضاجع طهران، التي كانت تتأهب لتوجيه ضربة قاصمة لإسرائيل ردًا على عدوان السادس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وذلك في سياق لعبة "الردود والردود المضادة" التي انخرط فيها البلدان منذ قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع أبريل/ نيسان، والرد الإيراني في منتصفه، وما تلاهما من ردود متبادلة، بلغت ذروتها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية بعشرة أيام، بعدوان إسرائيلي واسع النطاق – نسبيًا – ضد منشآت دفاعية وصاروخية في العمق الإيراني. إن سيناريو "يوم القيامة" هو الأشد فتكًا وتهديدًا لمصالح إيران الإستراتيجية وأمنها واستقرارها وسلامة أراضيها، مقارنة بأي سيناريو آخر.
تهدئة بعد تصعيد
لقد بلغ التهديد الإيراني بضربة "موجعة" و"واسعة" لإسرائيل أوجه خلال الأسابيع الماضية، ولم يتوانَ أي مسؤول إيراني، سواء كان سياسيًا أو عسكريًا، عن إطلاق التصريحات "المدوية". إلا أن "حدة" الخطاب الإيراني بدأت تنحسر تدريجيًا بعد أن كشفت صناديق الاقتراع الأميركي عن نتائجها، فاختفت هذه المصطلحات من قاموس الإيرانيين، أو تراجعت بشكل ملحوظ، حتى أننا لم نعد نسمع في إسرائيل أخبارًا عن "الاستعدادات" و"أعلى درجات اليقظة والاستنفار"، كما كان الحال قبل الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني.
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سبق له الاعتراف بوقوع بلاده في "فخ الخداع" الذي نصبته عواصم غربية، بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس في شمال طهران، والذي كان قد حضر إلى هناك للمشاركة في مراسم تنصيبه في هذا المنصب، وتعهد بألا تلدغ بلاده من الجحر نفسه مرتين. عاد الرئيس بزشكيان ليربط بين "الرد الإيراني" على الضربة الإسرائيلية من جهة، وفرص التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان من جهة أخرى، وكأنه يسعى جاهدًا للوصول إلى مثل هذه الاتفاقيات، ويعرض مقايضتها بتخلي إيران عن الرد على إسرائيل، أو الاكتفاء برد فعل محدود للغاية، رمزي في دلالته وأهدافه ووسائله.
إلا أن التعبير الأوضح عن التغير في لهجة الخطاب الإيراني جاء على لسان علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد الأعلى، الذي سبق له أن شغل منصب رئيس البرلمان، وترشح للانتخابات الرئاسية دون توفيق. فقد لخصت تصريحاته جوهر الشعور السائد لدى الطبقة الحاكمة في إيران، حين شدد على ضرورة التحلي بـ "أقصى درجات العقلانية" والابتعاد عن الردود العاطفية "غير المتأنية"، عند مناقشة الرد الإيراني على الهجوم الجوي الإسرائيلي الأخير على بلاده. هذه اللهجة لم تهيمن على الخطاب الإيراني من قبل، ولا شك أنها تأخذ في الاعتبار "عامل التغيير الجديد" الذي طرأ على حسابات السياسة الإيرانية، ونعني به "عودة ترامب".
بالتوازي مع ذلك، رأينا مسؤولين إيرانيين كبارًا، بوزن وزير الخارجية عباس عراقجي، يعيدون إحياء "العقيدة النووية" الإيرانية المعمول بها منذ العام 2003، والمستندة إلى فتوى الإمام خامنئي، التي تحرم وتجرم امتلاك السلاح النووي.
عراقجي، تحت قيادة كمال خرازي في المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، قاد حوارات وطنية وإقليمية تحت عنوان "مراجعة العقيدة النووية لإيران"، مما أوحى بأن طهران قد اتخذت قرارًا بالانخراط في بناء مشروع استراتيجي للردع المتبادل مع إسرائيل، وأنها ستتجاوز الخطوط الحمراء وتنضم إلى عضوية "نادي الدول النووية".
وهذا يعني أن طهران قررت انتهاج سياسة "اليد الممدودة" تجاه ترامب وإدارته اليمينية المحافظة، والاستقبال بـ "هجوم سلام"، بدلًا من سياسة التحدي والتصعيد، وتوجيه الضربات الانتقامية لإسرائيل، في محاولة منها للبناء على الجانب الإيجابي من الرسائل المزدوجة التي ما فتئ الرئيس المنتخب يطلقها تجاهها بين الحين والآخر، ومنها استعداده لتطبيع العلاقات معها، إذا التزمت قولًا وفعلًا بالابتعاد عن "القنبلة"، والكف عن "عسكرة" برنامجها النووي.
وهذا يعني أيضًا، أن طهران ستتعامل بأقصى درجات الحيطة والحذر مع محاولات نتنياهو وإسرائيل لجر الولايات المتحدة، تحت قيادة ترامب، لتوجيه ضربات "مدمرة" لبرنامجيها النووي والصاروخي، وأنها تخشى أن يجد رئيس وزراء إسرائيل لدى إدارة ترامب ما لم توفره له إدارة بايدن – هاريس المغادرة. فترامب، على أية حال، لم يكتفِ بالتلويح بحزمة حوافز لإيران، بل لوح في وجهها بعصاه الغليظة إذا لم تلتزم بالابتعاد عن "القنبلة"، والعودة إلى الامتثال لما يسمى بـ "المجتمع الدولي".
صحيح أن الإعلام الإيراني تعامل باستهتار يصل إلى حد الازدراء مع فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة، مقللًا من شأن التداعيات المحتملة لسياساته وإجراءاته على أمن إيران واستقرارها ودورها وتطلعاتها، إلا أن الصحيح كذلك أن المستوى السياسي والأمني في طهران لم يتعامل مع هذا التطور بـ "الخفة" ذاتها، فهو يدرك تمام الإدراك أن "الخيار العسكري" لا يزال مطروحًا على الطاولة، وأن استراتيجية "أقصى الضغوط" لا تهدف إلى تجفيف مصادر النفوذ الإقليمي لطهران فحسب، وإنما إلى تحريض "الداخل على النظام" كذلك، حتى وإن استمرت الولايات المتحدة في التأكيد على أنها تسعى إلى تغيير سياسات النظام، ولا تسعى إلى تغيير النظام ذاته.
وكان لافتًا جدًا أن هجوم السلام الذي استقبلت به طهران ترامب العائد إلى البيت الأبيض قد اتخذ مسارات متعددة وسريعة، وقبل أن يمضي أسبوع واحد فقط على فوز ترامب "الساحق"، منها ما يتردد عن انتعاش مبكر لخطوط التواصل الخلفية مع إدارة ترامب، عبر القنوات التقليدية (مسقط، الدوحة وبغداد)، ومنها "هجوم السلام" على الدول الخليجية وجوارها، وبالأخص المملكة العربية السعودية، إن لم يكن بهدف قطع الطريق على مشاريع سابقة ارتبطت باسم ترامب مثل مشروع "ناتو شرق أوسطي"، وتحالف إقليمي بقيادة إسرائيل لمواجهة إيران، فعلى الأقل لضمان حياد أجوائها وممراتها، حال اندلاع موجة جديدة من المواجهات مع إسرائيل والولايات المتحدة، إذا سارت الأمور على غير ما تشتهيه السفن الإيرانية.
وفي اعتقادي أن الأسبوع الأول بعد الانتخابات الأميركية قد شهد نشاطًا دبلوماسيًا مكثفًا على خط الرياض – طهران، لم يكن معهودًا من قبل، ولم يكن ليحدث طيلة أشهر، وأحيانًا خلال سنوات بين البلدين.
والأهم من ذلك، أن "الدبلوماسية الدفاعية" كانت جزءًا من هذا النشاط، في سابقة تاريخية نادرة الحدوث، وليس مستبعدًا على الإطلاق، كما تقول مصادر مطلعة، أن تنضم الرياض إلى "القائمة المختصرة" من العواصم التي نشطت على خط الوساطة بين واشنطن وطهران، وأن تضطلع بدور ريادي متميز.